فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القاسمي:

{يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} أي: يخمدوا حجته الدالة على وحدانيته، وتقدسه عن الولد، أو القرآن، أو نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} أي: بإعلاء التوحيد، وإعزاز الإسلام {وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} أي: بدلائل التوحيد، ذلك.
قال أهل المعاني: نور الله استعارة أصلية تصريحية لحجته أو ما بعدها، لتشبيه كل منها بالنور في الظهر، والإطفاء ترشيح، أو هو استعارة تمثيلية، شبه حالهم في محاولتهم إبطال النبوة بالتكذيب، بحال من يطلب إطفاء نور عظيم، منبث في الآفاق، يريد الله أن يزيده بنفخه.

.لطائف:

الأولى: قال الشهاب: روعي في كل من المشبه والمشبه به الإفراط والتفريط، حيث شبه الإبطال بالإطفاء بالفم، ونسب النور إلى الله، ومن شأن النور المضاف إليه أن يكون عظيمًا، فكيف يطفأ بنفخ الفم، مع ما بين الكفر الذي هو ستر وإزالة للظهور، والإطفاء من المناسبة.
الثانية: لا يخفى أن قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يُتِمَّ} استثناء مفرغ، وهو في محل نصب مفعول به، والإستثناء المفرغ يكون في الفعل المنفي لا موجب، إلا أن يستقيم المعنى.
وهنا صح التفريغ من الموجب وهو: {وَيَأبى اللهُ} لأنه نفى في المعنى، لأنه وقع في مقابلة: {يُرِيدُونَ} وفيه من المبالغة والدلالة على الإمتناع ما ليس في نفي الإرادة، أي: لا يريد شيئا من الأشياء إلا إتمام نوره، فيندرج في المستثنى منه بقاؤه على ما كان عليه، فضلًا عن الإطفاء- أفاده أبوا السعود-.
وقال الزجاج: المستثنى منه محذوف تقديره: ويكره الله كل شيء إلا إتمام نوره.
قال الشهاب: فالمعنى على العموم المصحح للتفريغ عنده، فللناس في توجيه التفريغ هنا مسلكان.
والحاصل أنه إن أريد كل شيء يتعلق بنوره بقرينة السياق، صح إرادة العموم، ووقوع التفريغ في الثابتات، كما ذهب إليه الزجاج، إذ ما من عامّ إلا وقد خُصِّص، فكل عموم نسبي، لكنه يكتفي به، ويسمى عمومًا.
ألا ترى إن مثالهم قرأت إلا يوم كذا، قد قدّره كل يوم، والمراد من أيام عمره، لا من أيام الدهر.
فإن نظر إلى الظاهر في أمثاله كان عامًّا، واستغنى عن النفي، وإن نظر إلى نفس الأمر، فهو ليس بعام، فيؤول بالنفي، والمعنى فيهما واحد وإنما أوّل به هنا عند من ذهب إلى تأويله، لاقتضاء المقابلة له، إذ ما من إثبات إلا ويمكن تأويله بالنفي، فيلزمه جريان التفريغ في كل شيء، وليس كذلك ما صرح به الرضي.
ولذا قيل: الاستثناء المفرغ، وإن اختص بالنفي، إلا أنه قد يمال مع المعنى بمعونة القرائن، ومناسبة المقامات، فيجري بعض الإيجابات مجرى النفي في صحة التفريغ معها- ذكره الشهاب أيضًا-.
الثالثة: قال أبو السعود: وفي إظهار النور في مقام الإضمار مضافًا إلى ضميره عز وجل زيادة اعتناء بشأنه، وتشريف له على تشريف، وإشارة بعلة الحكم. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32)}
استئناف ابتدائي لزيادة إثارة غيظ المسلمين على أهل الكتاب، بكشف ما يضمرونه للإسلام من الممالاة، والتألّب على مناواة الدين، حين تحقّقوا أنّه في انتشار وظهور، فثار حسدهم وخشوا ظهور فضله على دينهم، فالضمير في قوله: {يريدون} عائد إلى {الذين أوتوا الكتاب} [التوبة: 29] والإطفاء إبطال الإسراج وإزالةُ النور بنفخ عليه، أو هبوب رياح، أو إراقة مياه على الشيء المستنير من سراج أو جمر.
والنور: الضوء وقد تقدّم عند قوله تعالى: {نورًا وهدى للناس} في سورة الأنعام (91).
والكلام تمثيل لحالهم في محاولة تكذيب النبي، وصدّ الناس عن اتّباع الإسلام، وإعانة المناوئين للإسلام بالقول والإرجاف، والتحريض على المقاومة.
والانضمام إلى صفوف الأعداء في الحروب، ومحاولة نصارى الشام الهجوم على المدينة بحال من بيحاول إطفاء نور بنفخ فمِه عليه، فهذا الكلام مركّب مستعمل في غير ما وضع له على طريقة تشبيه الهيئة بالهيئة، ومن كمال بلاغته أنّه صالح لتفكيك التشبيه بأنّ يشبّه الإسلام وحده بالنور، ويشبّه محاولو إبطاله بمريدي إطفاءِ النور ويشبّه الإرجاف والتكذيب بالنفخ، ومن الرشاقة أنّ آلة النفخ وآلة التكذيب واحدة وهي الأفواه.
والمثال المشهور للتمثيل الصالححِ لاعتباري التركيب والتفريق قول بشار:
كَأنَّ مُثَار النَّقْع فوقَ رءوسنا ** وأسْيافَنَا ليلٌ تَهاوَى كواكبُه

ولكن التفريق في تمثيليةِ الآيةِ أشدّ استقلالًا، بخلاف بيت بشّار، كما يظهر بالتأمّل.
وإضافة النور إلى اسم الجلالة إشارة إلى أنّ محاولة إطفائه عبث وأنّ أصحاب تلك المحاولة لا يبلغون مرادهم.
والإباء والإباية: الامتناع من الفعل، وهو هنا تمثيل لإرادة الله تعالى إتمام ظهور الإسلام بحال من يحاوِله محاوِل على فعلٍ وهو يمتنع منه، لأنّهم لمّا حاولوا طمس الإسلام كانوا في نفس الأمر محاولين إبطال مراد الله تعالى، فكان حالهم، في نفس الأمر، كحال من يحاول من غيره فعلًا وهو يأبى أن يفعله.
والاستثناء مفرّغ وإن لم يسبقه نفي لأنه أجري فعل يأبَى مجرَى نفي الإرادة، كأنّه قال: ولا يريد الله إلاّ أن يتمّ نوره، ذَلك أنّ فعل (أبَى) ونحوه فيه جانب نفي لأنّ إباية شيء جحد له، فقَويَ جانب النفي هنا لوقوعه في مقابلة قوله: {يريدون أن يطفئوا نور الله}.
فكان إباء ما يريدونه في معنى نفي إرادة الله ما أرادوه.
وبذلك يظهر الفرق بين هذه الآية وبين أن يقول قائل: كَرِهْت إلاّ أخَاك.
وجيء بهذا التركيب هنا لشدّة مماحكة أهل الكتاب وتصلّبهم في دينهم، ولم يُجأْ به في سورة الصف (8) إذ قال: {يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره} لأنّ المنافقين كانوا يكيدون للمسلمين خُفية وفي لين وتملّق.
وذكر صاحب الكشاف عند قوله تعالى: {فشربوا منه إلا قليل منهم} في قراءة الأعمش وأبي برفع قليل في سورة البقرة (249): أن ارتفاع المستثنى على البدلية من ضمير {فشربوا} على اعتبار تضمين {شربوا} معنى، فلم يطعموه إلاّ قليل، ميلًا مع معنى الكلام.
والإتمام مؤذن بالريادة والانتشار ولذلك لم يقل: ويأبى الله إلاّ أن يُبْقي نوره.
و{لو} في {ولو كره الكافرون} اتّصالية، وهي تفيد المبالغة بأنّ ما بعدها أجدر بانتفاء ما قبلها لو كان منتفيًا.
والمبالغة بكراهية الكافرين ترجع إلى المبالغة بآثار تلك الكراهية، وهي التألّب والتظاهر على مقاومة الدين وإبطاله.
وأمّا مجرد كراهيتهم فلا قيمة لها عند الله تعالى حتّى يبالَغ بها، والكافرون هم اليهود والنصارى. اهـ.

.قال الشعراوي:

{يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32)}
لكن هل يستطيعون أن يطفئوا نور الله؟ لا؛ لأن الإنسان في الأمر الحسّي لا يستطيع أن يطفئ النور؛ لأن هناك فَرقًا بين مصدر النور وبين أداة التنوير، فالإنسان يمكنه أن يحطم الدائرة الزجاجية التي تحمل النور، لكن لا أحد بإمكانه أن يطفئ المُنوِّر والمنوِّرُ الأعلى هو الله، ولا أحد يستطيع إطفاءه.
{يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ ويأبى الله} أي: لا يريد الله شيئًا {إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ}، وسبحانه قد أرسل الرُّسُل حاملة لمنهج النور ولم يرسل الرسل لينتصر عليهم الكفر، ولذلك يقول لنا: {ويأبى الله} أي لا يريد {إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكافرون}. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32)}
أخرج ابن أبي حاتم عن السدي رضي الله عنه في قوله: {يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم} قال: الإِسلام بكلامهم.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك رضي الله عنه في قوله: {يريدون أن يطفئوا نور الله} يقول: يريدون أن يهلك محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه أن لا يعبدوا الله بالإِسلام في الأرض، يعني بها كفار العرب وأهل الكتاب من حارب منهم النبي صلى الله عليه وسلم وكفر بآياته.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة رضي الله عنه في قوله: {يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم} قال: هم اليهود والنصارى. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.قال في ملاك التأويل:

قال تعالى: {يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون} وفى سورة الصف: {يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون} ومعنى الآيتين في السورتين واحد وقد زادت آية براءة على آية الصف عشرة أحرف صورا فللسائل أن يسأل عن وجه ذلك؟
والجواب عنه والله أعلم: أن زيادة آية براءة مقابل بها ما ورد من الطول في المحكى في هذه السورة من قول الطائفتين من اليهود والنصارى قال تعالى حاكيا عنهم: {وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله} فوقع في المحكى هنا طول اقتضى ما بنى جوابا عليه ليتناسب.
وأما آية الصف فمقابل بها قول عيسى عليه السلام لما قال لهم: {يا بنى إسرائيل إنى رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدى من التوراة ومبشرا برسول يأتى من بعدى اسمه أحمد} ثم قال تعالى: {فلما جاءهم البينات قالوا هذا سحر مبين} وإنما الجواب على المحكى من قولهم خاصة وهو قولهم: {هذا سحر مبين} وليس هذا في الطول وعدة الكلم المحكى في سورة براءة ألا ترى أن الواقع في سورة براءة ست كلمات وفى الصف ثلاث كلمات ثم إن الواقع في سورة براءة مقال طائفتين منهم اليهود والنصارى مفصحا به والواقع في الصف مقالة طائفة واحدة وهذا مراعى فقد وضح ورود كل من الآيتين مناسبا لما اتصل به وعلى ما يجب في السورتين والله أعلم بما أراد. اهـ.

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32)}
من رام أن يستر شعاع الشمس بدخان يوجهه من نيرانه، أو عالج أنْ يمنع حكم السماء بحيلته، وتدبيره، أو يُسْقِطَ نجوم الفَلَكِ بسهام قوسِه- أظهرَ رُعونَته ثم لم يَحْظَ بمراده. كذلك مَنْ توهَّم أن سُنَّةَ التوحيد يعلوها وَهَجُ الشُّبَه فقد خاب في ظنِّه، وافتضح في وهمه. اهـ.